الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و{من} ابتدائية كما في قوله تعالى: {فويل لهم مما كتبت أيديهم} [البقرة: 79]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن الزبير حين شرب دم حِجامته: «ويل لك من الناس وويل للناس منك».{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} {أم} منقطعة أفادت إضرابًا انتقاليًا وهو ارتقاء في الاستدلال على ثبوت البعث وبيان لما هو من مقتضى خلق السماء والأرض بالحق، بعد أن سيق ذلك بوجه الاستدلال الجُمليّ، وقد كان هذا الانتقال بناء على ما اقتضاه قوله: {ذلك ظنُّ الذين كفروا} [ص: 27] فلأجْل ذلك بني على استفهام مقدر بعد {أم} وهو من لوازم استعمالها، وهو استفهام إنكاري.والمعنى: لو انتفى البعث والجزاء كما تزعمون لاستوت عند الله أحوال الصالحين وأحوال المفسدين.والتشبيه في قوله: {كالمُفْسِدِينَ} للتسوية.والمعنى: إنكار أن يكونوا سواء في جعل الله، أي إذا لم يُجاز كلَّ فريق بما يستحقه على عمله، فالمشاهد في هذه الحياة الدنيا خلاَفُ ذلك فتعين أن يكون الجزاء في عالم آخر وهو الذي يسلك له الناس بعد البعث.وقد أُخذ في الاستدلال جانبُ المساواة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، لأنه يوجد كثير من الفريقين متساوِينَ في حالة الحياة الدنيا في النعمة أو في التوسط أو في البؤس والخصاصة، فحالة المساواة كافية لتكون مناط الاستدلال على إبطال ظن الذين كفروا بقطع النظر عن حالة أخرى أولى بالدلالة، وهي المقابلة بين فريق المفسدين أولي النعمة وفريق الصالحين أولي البؤس، وعن حالة دون ذلك وهي فريق المفسدين أصحاب البؤس والخصاصة وفريق الصالحين أولي النعمة لأنها لا تسترعي خاطر الناظر.و{أم} الثانية منقطعة أيضًا ومفادها إضراب انتقال ثانٍ للارتقاء في الاستدلال على أن الحكمة الربانية بمراعاة الحق وانتفاع الباطل في الخلق تقتضي الجزاء والبعثَ لأجله.ومعنى الاستفهام الذي تقتضيه {أم} الثانية: الإِنكار كالذي اقتضته {أم} الأولى.وهذا الارتقاء في الاستدلال لقصد زيادة التشنيع على منكري البعث والجزاء بأن ظنهم ذلك يقتضي أن جعل الله المتقين مُساوين للفجّار في أحوال وجود الفريقين، وتقريره مِثلَ ما قُرّر به الاستدلال الأول.والمتّقون: هم الذين كانت التقوى شعارهم.والتقوى: ملازمة اتباع المأمورات واجتناب المنهيات في الظاهر والباطن، وقد تقدم في أول سورة البقرة.والفجّار: الذين شعارهم الفجور، وهو أشد المعصية، والمراد به: الكفر وأعماله التي لا تراقب أصحابها التقوى كما في قوله تعالى: {أولئك هم الكفرة الفجرة} [عبس: 42] وقد تقدم تفصيل من هذا عند قوله تعالى: {إنه يبدأ الخلق ثم يُعيدُهُ لِيَجْزِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتتِ بالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِنْ حَمِيممٍ وعَذَابٌ أَلِيمٌ بِما كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمس ضياءَ} إلى قوله: {مَا خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بِالحَقِّ} [يونس: 4- 5].والمقصود من هذا الإِطناب زيادة التهويل والتفظيع على الذين ظنوا ظنًّا يفضي إلى أن الله خلق شيئًا من السماء والأرض وما بينهما باطلًا فإن في الانتقال من دلالة الأضعف إلى دلالة الأقوى وفي تكرير أداة الإِنكار شأنًا عظيمًا من فضح أمر الضالين.{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} عقب الإمعان في تهديد المشركين وتجهيلهم على إعراضهم عن التدبر بحكمة الجزاء ويوم الحساب عليه والاحتجاج عليهم، أعرض الله عن خطابهم ووجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء على الكتاب المنزل عليه، وكان هذا القرآن قد بيّن لهم ما فيه لهم مقنع، وحجاجًا هو لشبهاتهم مقلع، وأنه إن حَرَم المشركون أنفسهم من الانتفاع به فقد انتفع به أولو الألباب وهم المؤمنون.وفي ذلك إدماجُ الاعتزاز بهذا الكتاب لمن أنزل عليه ولمن تمسك به واهتدى بهديه من المؤمنين.وهذا نظير قوله تعالى عقب ذكر خلق الشمس والقمر: {مَا خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بالحَقِّ يُفَصِّلُ الأَياتتِ لِقَوممٍ يَعْلَمُون} في أول سورة [يونس: 5].والجملة استئناف معتَرضضٍ وفي هذا الاستئناف نظر إلى قوله في أول السورة {والقُرءَاننِ ذي الذِكرِ} [ص: 1] إعادة للتنويه بشأن القرآن كما سيعاد ذلك في قوله تعالى: {هذا ذكر} [ص: 49].فقوله: {كِتابٌ} يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هذا كتاب، وجملة {أنزلناهُ} صفة {كِتابٌ} ويجوز أن يكون مبتدأ وجملة {أنزلناهُ} صفة {كِتاب} و{مُبارَكٌ} خبرًا عن {كِتابٌ}.وتنكير كِتابٌ للتعظيم، لأن الكتاب معلوم فما كان تنكيره إلا لتعظيم شأنه وهو مبتدأ سوغ الابتداء به وصفه بجملة {أنزلناهُ} و{مُبارَكٌ} هو الخبر.ولك أن تجعل ما في التنكير من معنى التعظيم مسوغًا للابتداء وتجعل جملة {أنزلناهُ} خبرًا أول و{مُبارَكٌ} خبرًا ثانيًا و{لِيدَّبَّرُوا} متعلق ب {أنزلناهُ} ولكن لا يجعل {كِتابٌ} خبر مبتدأ محذوف وتقدره: هذا كتاب، إذ ليس هذا بمحَزّ كبير من البلاغة.والمبارك: المُنبَثّة فيه البركة وهي الخير الكثير، وكل آيات القرآن مبارك فيها لأنها: إمّا مرشدة إلى خير، وَإمّا صارفة عن شرّ وفساد، وذلك سبب الخير في العاجل والآجل ولا بركة أعظم من ذلك.والتدبر: التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه بحيث كلما ازداد المتدبر تدبرًا انكشفت له معان لم تكن بادية له بادىء النظر.وأقربُ مثل للتدبر هنا هو ما مر آنفًا من معاني قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلًا} إلى قوله: {أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 27- 28]، وتقدم عند قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} في سورة [النساء: 82].وقرأ الجمهور: {ليَدَّبَّرُوَا} بياء الغيبة وتشديد الدال.وأصل {يدبروا} يتدبروا، فقلبت التاء دالًا لقرب مخرجيهما ليتأتى الإِدغام لتخفيفه وهو صيغة تكلف مشتقة من فعل: دَبَرَ بوزن ضرب، إذا تبع، فتدبَّره بمنزلة تتبَّعه، ومعناه: أنه يتعقب ظواهر الألفاظ ليعلم ما يَدْبر ظواهرها من المعاني المكنونة والتأويلات اللائقة، وتقدم عند قوله تعالى: {أفلم يدبروا القول} في سورة [المؤمنين: 68].وقرأ أبو جعفر {لتَدَبروا} بتاء الخطاب وتخفيف الدال وأصلها: لتتدبروا فحذفت إحدى التاءين اختصارًا، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين.والتذكُّر: استحضار الذهن ما كان يعلمه وهو صادق باستحضار ما هو منسي وباستحضار ما الشأن أن لا يُغفل عنه وهو ما يهمّ العلم به، فجُعل القرآن للناس ليتدبروا معانيه ويكشفوا عن غوامضه بقدر الطاقة فإنهم على تعاقب طبقات العلماء به لا يصلون إلى نهاية من مكنونه ولتذكرهم الآية بنظيرها وما يقاربها، وليتذكروا ما هو موعظة لهم وموقظ من غفلاتهم.وضمير {يدبروا} على قراءة الجمهور عائد إلى {أولوا الألباب} على طريقة الإِضمار للفعل المهمل عن العمل في التنازع، والتقدير: ليدَبَّر أولو الألباب آياته ويتذكروا، وأما على قراءة أبي جعفر فإسناد {يتذكر} إلى {أُولُوا الألبابِ} اكتفاء عن وصف المتدبرين بأنهم أولو الألباب لأن التدبر مُفْضضٍ إلى التذكر.والتذكر من آثار التدبر فوصف فاعل أحد الفعلين يُغني عن وصف فاعل الفعل الآخر.و{أولوا الألباب} أهل العقول وفيه تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ليسوا من أهل العقول، وأن التذكر من شأن المسلمين الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، فهم ممن تدبروا آياته فاستنبطوا من المعاني ما لم يعلموا، ومن قرأه فتذكر به ما كان علمه وتذكر به حقًا كان عليه أن يرعاه، والكافرون أعرضوا عن التدبر فلا جرم فاتهم التذكر. اهـ.
|